شرح قصيدة صوت صفير البلبل القصيدة الأشهر في التلاعب اللغوي والإتيان بالألفاظ الصعبة المنسوبة للأصمعي، يُقال : إنه قالها أمام الخليفة أبي جعفر المنصور،
في موضوعنا هذا سنتناول شرح قصيدة صوت صفير البلبل، ونتناول قصتها المشهورة، ونبحث في صحة القصة وصحة نسبها للأصمعي.
تحليل النص :
عندما نحاول شرح قصيدة صوت صفير البلبل سنلاحظ أن تلك القصيدة لا تحمل غرضا رئيسا منها إنما هي - فقط - منظومة لتكون هي غرضا في ذاتها، بمعنى أن الغرض منها هو التركيب اللغوي المعجز على الفهم والحفظ. حتى وإن كان مدح الخليفة في متن الأبيات .
فالغرض الأساس منها ، هو بيان الفحولة اللغوية والإتيان بقصيدة لا يحفظها أحد بسهولة، كما تروي حكايتها المشهورة في كتب الأدب ونوادر الأدباء ومجالس السمر في بلاط الخلفاء.
١- صَوتُ صَفِيرِ البُلبُلِ *** هَيَّجَ قَلبِي الثَمل
معاني الألفاظ
صفير: هو اسم صوت تغريد طائر البلبل.
البلبل: هو نوع من الطيور الصغيرة المغردة يشبه عصافير الدوري، إلا أن صوته شجي وجميل .
هيج: أثار وغير الحال.
الثمل: هو السكران من آثار شرب الخمر.
معنى البيت: يقول الشاعر أن قلبه الذي كان ثملا بسبب حب المحبوبة، اهتاج واشتعل عندما سمع صوت تغريد طائر البلبل، فتلك الأصوات الشجية تُذكّر العاشق بالجمال، ومَنْ أجمل من المحبوبة؟!
وتعبير قلبي الثمل يُحمل على المجاز.. أي أنه عندما يشرب لا يثمل قلبه، إنما هو ثمل من حُب المحبوبة، وهذه استعارة.
ملحوظة: ورد في بعض المصادر : “الثَملي” بالياء المد وهذه للضرورة الشعرية فقط، فعجز البيت مكسور ، وهو من باب الإطالة ، فأصبحت الحركة ياء، وعلى هذا في أغلب الأبيات.
٢- الماءُ وَالزَهرُ مَعًا *** مَع زَهرِ لَحظِ المُقَلِ
معاني الألفاظ
المقل: جمع مقلة وهي العين.
معنى البيت: يصف الشاعر جمال وجه محبوبته بأنه مثل الحديقة ذات الألوان المبدعة، فاحمرار خديّها خجلًا يشبه لون الورد، ونضارة وجهها وحيويته كنهر جارٍ ، أن عينيها مثل الزهور في جمالهن.
٣- وَأَنتَ يا سَيِّدَ لِي *** وَسَيِّدِي وَمَولى لِي
معاني الألفاظ
سَيِّدَ لِي: سيدي
مَولى لِي: مولاي
معنى البيت: ثم ينتقل الشاعر إلى الخليفة الذي يلقي القصيدة أمامه، يناديه بعدة أوصاف مترادفة من باب الإطناب.. حيث أن سيدي نفس معنى مولاي، وهي هنا للتأكيد .
٤ - فَكَم فَكَم تَيَمَّنِي *** غُزَيِّلٌ عُقَيقَلي
معاني الألفاظ والشرح
كم: خبرية للتكثير.
تَيَمَّنِي: التيم هو شدة الحب ، فيقول الشاعر : أن هذه المحبوبة جعلتني متيم بها.
غُزَيِّلٌ: هو الغزال الصغير، والغزال كان من أجمل الحيوانات في الثقافة العربية القديمة وتُشبه بهِ المرأة الجميلة، وجاء بصيغة التصغير لأن من أغراض التصغير هو التدليل ، وهذا يدل على حبه لتلك الفتاة وأنها قريبة من قلبه.
عُقَيقَلي: تصغير كلمة عقيق، وهو حجر كريم لونه أحمر.
معني البيت : نجد هنا أن الشاعر عاد إلى الغزل ووصف محبوبته بالغزال الذي يتحول لونه للأحمر من الخجل، وهذه كناية عن جمالها وشدة خجلها.
٥ - قَطَّفتَهُ مِن وَجنَةٍ *** مِن لَثمِ وَردِ الخَجَلِ
معاني الألفاظ
وجنة: الخد.
اللثم: القبلة.
معنى البيت: يكمل الشاعر التغزل في محبوبته، فيصف خدودها بأنها مثل الورد الأحمر بسبب خجلها، وأنه قد قبّلها على هذا الخد، فكان تقبيله لها كأنه سرق وردة من هذه الحديقة المزهرة.
٦ - فَقالَ لا لا لا لا لا *** وَقَد غَدا مُهَرولِ
مُهَرولِ: الهرولة هي الجري البسيط .
معنى البيت: يصف الشاعر حال محبوبته حين قبّلها، فقالت لا للدلالة على الرفض لكنها كررته للتدلل، وكانت تجري بخفة وهدوء.
أما وصفها بصيغة المذكر في قوله : ( قال ) فهذا قد يرجع إلي : أنه شبهها بصغير الغزال، وصغير الغزال “غُزَيِّلٌ” يُخاطب بصيغة المذكر.
٧ - وَالخُوذُ مالَت طَرَباً *** مِن فِعلِ هَذا الرَجُلِ
معاني الألفاظ
الخُوذُ: هي الفتاة الجميلة، ذات الملمس الناعم، ويطلق أيضًا على الأبل.
معنى البيت: يصف الشاعر حال محبوبته الجميلة حين قبّلها، أن تمايلت من الطرب والفرحة وغابت عن الشعور، وعلى معنى أن الخوذ بمعني الإبل فإن الشاعر يصف حال الإبل حين تمايلت فرحًا له عندما قبّل محبوبته، فهذا نوع من المشاركة الوجدانية بين الرجل وإبله ، وإنها تشعر به وتعلم كم يُحب هذه الفتاة.
٨ - فَوَلوَلَت وَوَلوَلَت *** وَلي وَلي يا وَيلَ لِي
معاني الألفاظ
فوَلوَلَت: الولولة دعاء المرأة بالعذاب، وهو صوت المرأة بالصراخ عند المصائب.
وَلي: الولي هو ولي الأمر ، ( والدها أو سيدها ).
معنى البيت: أنها حينما قبّلها غابت. فلما فاقت ظلت تولول وتدعو عليه، ودعاء المحبوب هو نوع من التدلل.
٩ - فَقُلتُ لا تُوَلوِلي *** وَبَيّني اللُؤلُؤَ لَي
معاني الألفاظ
اللؤلؤ: هو من الأحجار الكريمة، يتم استخراجه من المحار في البحر، ولونه أبيض لامع لا شوائب به.
معنى البيت : يحكي لناالشاعر عندما ولولت حبيبته ، قال لها: أن تهدأ وتكف عن الصراخ ، وأن تريه أسنانها ( أي تبتسم ) . وتشبيه الأسنان باللؤلؤ كناية عن جمال وبياض أسنان الفتاة.
١٠ - قالَت لَهُ حينَ كَذا *** اِنهَض وَجد بِالنقَلِ
معاني الألفاظ
كذا: إشارة إلى ما فعله معها.
النقل: الشراب (الخمر)
معنى البيت: يكمل الشاعر حكي ما حدث مع حبيبته، فعندما نهاها عن الصراخ، وأكمل التقبيل ؛ قالت له : انهض من مكانك واذهب وآتي لنا بالشراب حتى نشرب معًا.
١١ - وَفِتيةٍ سَقَونَنِي *** قَهوَةً كَالعَسَلَ لِي
معاني الألفاظ
القهوة: اسم من أسماء الخمر، لم تكن القهوة التي نشربها الآن.
معنى البيت: يقول الشاعر أنه عندما ذهب ليحضر الخمر قابل فتية وسقوه نوع من الخمر مذاقها جميل كأنه العسل.
١٢ - شَمَمتُها بِأَنَافي *** أَزكى مِنَ القَرَنفُلِ
معاني الألفاظ
أَنَافي: جمع أنف، ومضافة إلى ياء المتكلم .
القَرَنفُلِ: نبتة لها رائحة جميلة .
معنى البيت: يكمل الشاعر وصف تلك الخمر ويقول أن رائحتها مثل القرنفل ؛ مما يدل تأثيرها و جمالها.
١٣ - فِي وَسْطِ بُستانٍ حُلِي *** بِالزَهرِ وَالسُرورُ لِي
معاني الألفاظ
حُلِي: تزين بالزهر .
معنى البيت: يقول الشاعر أن هؤلاء الفتيان أجلسوه في وسط بستان مزين بالزهور الجميلة، فسر بهذا المكان .
١٤ - وَالعُودُ دَندَن دَنا لِي*** وَالطَبلُ طَبطَب طَبَ لِي
معاني الألفاظ
العُودُ: ألة موسيقية وترية .
دَندَن: صوت الأنغام، أو التنغيم في الكلام الغير مفهوم.
دَنا: اقترب.
الطبل: آلة موسيقية إيقاعية، يتم الضرب عليها.
طَبطَب: صوت الطبل.
طَبَ: يقصد طاب، أي أعجبني.
معنى البيت: أنه في هذا المكان الجديد قد استمع إلى الموسيقى والطبل .
١٥ - طَب طَبِطَب طَب طَبَطَب *** طَب طَبَطَب طَبطَبَ طب لِي
معنى البيت: الـ(طَبِطَب..) هو تقليد لصوت الطبلة ولإيصال المعنى للمستمع.
و ال(طَبَطَب..) من الطِب الذي هو العلاج، أي أن هذا الصوت والرقص قد عالجني بأنغامه الجميلة .
١٦ - وَالسَقفُ سَق سَق سَق لِي *** وَالرَقصُ قَد طابَ لِي
معاني الألفاظ
سَق سَق سَق: تقليد صوت احتكاك الهواء مع الجريد في السقف.
معنى البيت: بيوت بعض العرب قديمًا كانت مسقوفة بجذوع النخل ومغطاة بالجريد ، فكان الهواء يمر بها ويجعلها تهتز وتصدر صوتا يمتزج مع صوت الموسيقى والطبل ، مع وجود الراقصين ، فكل هذا قد طاب له وأعجبه، وهذا كناية عن جمال النسيم.
١٧ - شَوى شَوى وَشاهشُ *** على ورق سفرجلي
معاني الألفاظ
شوي: اللحم المشوي.
شاهشُ: لها عدة معانٍ، فهو لحم الإبل الخالي من الدهون.. وقيل : هي نوع من أنواع الشوي، وقيل : هي الكمأة المشوية، وقيل : هي أكل الملك في اللغة الفارسية.
السفرجل: هو نبات له أوراق خضراء؛ يؤكل نيئا ومطهيا وله ثمار تُشبه التفاح.
معنى البيت: الشاعر يقول أنه بجانب الرقص والخمر والموسيقى، كان هناك لحم مشوي من أجود أنواع اللحم .
١٨ - وغرد القمري يصيح *** مللٍ في مللِ
معاني الألفاظ
القمري: نوع من اليمام له رسمة طوق على رقبته، يتميز بصوته الجميل.
يصيح: الصياح هو الصوت الشديد.
ملل : كثرة التغريد
معنى البيت: يقول الشاعر إنه في وسط كل هذا من غناء ورقص ولحم مشوي وخمر طيب الطعم والرائحة، وجو عليل كان هناك يمامة تغرد على السقف نستمتع بغنائها .
١٩ - ولو تراني راكبًا *** عَلى حِمارِ أَهزَلِ
معاني الألفاظ
أهزل: ضعيف.
معنى البيت: يصف الشاعر حال الحمار الذي كان يركبه بأنه ضعيف جدًا.
٢٠ - يَمشِي عَلى ثَلاثَةٍ *** كَمَشيَةِ العَرَنجلِ
معاني الألفاظ
ثلاث: يقصد ثلاث أرجل، أي أن الحمار كان يعرج.
العَرَنجلِ: كلمة ليس لها معنى في اللغة العربية وأقرب معنى لها هو كلمة عنجل، وهو العجوز، فيحتمل أنه تم تصحيفها لتناسب الضرورة الشعرية، ووجه الشبه أن العجوز يتكئ على عصا وكأنه يمشي على ثلاث أقدام.
معنى البيت: الشاعر يصف مشية حماره ، أنه كان يعرج ويمشي بصعوبة.
٢١ - وَالناسِ تَرجم جَمَلِي *** فِي السُوق بِالقُلقُلَلِ
معاني الألفاظ
ترجم: القذف بالحجارة.
القُلقُلَلِ: ليس لها معنى في معاجم اللغة العربية وأقرب تصور لها أنها القلل، وأن الشاعر أضاف لها حروف لتناسب الوزن والغرض من القصيدة .
معنى البيت: يقول الشاعر أن الناس كانوا يرمون الجمل الذي كان يركبه بالحجارة، ورغم أنه وصفه في البيت السابق بالحمار الأعرج؛ رجع و قال :إنه جمل وفي ذلك تعظيم للحمار لما تحمله ولاقاه من رجمه بالحجارة.
٢٢ - وَالكُلُّ كَعكَع كَعِكَع *** خَلفي وَمِن حُوَيلَلي
معاني الألفاظ
كَعكَع الأولى: بجانبي .
كَعِكَع الثانية: يخوفونه .
حُوَيلَلي: تصغير كلمة حولي.
معنى البيت: يقول الشاعر أن الناس كانوا متجمعين حوله يخوفونه من كل جهة.
٢٣ - لَكِن مَشَيتُ هارِباً *** مِنْ خَشْيَةِ العَقَنْقِلِي
معاني الألفاظ
خشية: خوف واتقاء شر.
العَقنقلي : كوم رمل اسمه العَقَنْقِلِي ، بجوار جبل بدر ؛ وهو الذي قٌتل عنده الكفار، فيخاف الشاعر أن يحدث له مثلما حدث للكفار، أي يموت من الرجم بالحجارة.
معنى البيت: يقول الشاعر أنه هرب من الناس خوفًا أن يقتلوه.
٢٤ - إِلَى لِقَاءِ مَلِكٍ *** مُعَظَّمٍ مُبَجَّلِ
معاني الألفاظ
مُبَجَّلِ: موقر وله هيبة، ومعظم.
معنى البيت: يقول الشاعر إنه ترك كل ما كان به من مآسٍ ؛ لكي يقابل ملك عظيم.
٢٥ - يَأْمُرُلِي بِخَلْعَةٍ *** حَمراء كَالدَم دَمَلي
معاني الألفاظ
خلعة: ما يُعطى هدية من الملابس.
دمل: جرح، أي أنها مثل لون الدم.
معنى البيت: أنه ذهب للملك لكي يعطيه عباءة حمراء اللون، وتخصيص اللون الأحمر ؛ لأنه من الألوان الملكية، وتعطي وقارًا لصاحبها.
٢٦ - أَجُرُّ فيها ماشِياً *** مُبَغدِداً لِلذِيِّلِ
معاني الألفاظ
أجر: أي أنها طويلة لها ذيل يجره وراءه.
مُبَغدِداً: متفاخرًا.
معنى البيت: يصف الشاعر حاله في العباءة التي سيعطيها له الخليفة فسيمشي وهو يلبسها متفاخرًا، يجر ذيلها علي الأرض ، وجر الذيل من مواصفات الفخر والتكبر.
٢٧ - أَنا الأَدِيبُ الأَلمَعِي *** مِن حَيِّ أَرضِ المُوصِلِ
معاني الألفاظ
الأَلمَعِي: النجم اللامع في السماء، أو مذنب يدور حول الأرض.
معنى البيت: يفخر الشاعر بنفسه وأنه أديب لامع في مجاله مثل النجوم في السماء، وأنه يسكن في مكان في الموصل حيث العلم والأدب الغزير.
٢٨ - نَظِمتُ قِطعاً زُخرِفَت *** يَعجزُ عَنها الأَدبُولِي
معانى الألفاظ
نَظِمتُ: ألفت شعرا .
زُخرِفَ: التزين والتحلية بالزخارف.
الأَدبُولِي: لم نجد لها سابق في اللغة العربية، لكنها قد تكون بمعنى المُحب للأدب الحافظ له.
معنى البيت: يقول الشاعر متفاخرًا بفحولته الشعرية: بأنه ألف قصيدة مزينة رائعة يعجز عن حفظها المحب للأدب والحافظ له.
٢٩ - أَقولُ فَي مَطلَعِها *** صَوتُ صَفيرِ البُلبُل
معاني الألفاظ
مَطلَعِها: بدايتها
معنى البيت: يعني الشاعر أن قصيدته هذه كتب في مقدمتها صَوتُ صَفيرِ البُلبُلِ وهذه كلمة سهلة يقدر على حفظها أي أحد، وهذه دلالة على أن القصيدة سهلة، وأنه يتحدى الجميع بحفظها.
************************************************
قصة قصيدة صوت صفير البلبل
يُحكى أن الخليفة أبي جعفر المنصور كان ماهرا جدًا في حفظ القصائد، فكان يحفظ القصيدة بعد سماعها مرة واحدة، ولديه جارية تحفظ القصيدة إذا سمعتها مرتين، وعبد يحفظ القصيدة إذا سمعها ثلاث مرات فقط. فشرط ان لا يُعطي عطايا للشعراء؛ إلا على القصائد التي ينظموها هم، أما القصائد التي ينقلونها من شعراء آخرون فلا عطية لهم، وإن كانت القصيدة من نظمهم فلهم وزن ما كٌتبت عليه ذهب.
فيسهر الشاعر طوال الليل ينظم في قصيدة من بنات أفكاره، وحين يذهب ويُلقيها على الخليفة أبي جعفر المنصور، يقول له الخليفة : أنه قد سمعها قبل هذا اليوم.ثم ينادي على الجارية التي تكون مختبئة في مكان ما، ويقول لها هل تذكرين القصيدة التي تقول كذا وكذا ؟؟ فتقول: نعم وتنشدها؛ فهي الآن قد سمعتها مرتين، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة.ثم يُنادي على العبد الذي كان مختبئا ، فيقول له : هل تذكر القصيدة التي تقول كذا وكذا ؟؟ فيرد: نعم وينشدها له، فهو قد سمعها ثلاث مرات الآن، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة ومرة من أخرى من الجارية.فيُبهت الشاعر؛ كيف يكون هو من نظّم القصيدة ؟ ويجد أن هناك ثلاثة يحفظونها، وبهذه الطريقة لا يأخذ أحد من العطايا شيئا .
عندما رأى الأصمعي حال الشعراء هذا طرأت له فكرة، قام وغير من هيئته ، ولثم وجه ، ولبس لبس الأعراب وجر جمل ودخل على ديوان الخليفة مدعيًا ؛ أنه رجل أعرابي من الموصل، ثم يلقى على الخليفة هذه القصيدة التي ذكرناها : صوت صفير البلبل.
لم يستطع الخليفة حفظها لصعوبة ألفاظها، ونادى على الجارية والعبد فلم يستطيعا قول شيء، فقال له : هات ما كتبت عليها نزِنه وتأخذ ذهبك. ردَّ الرجل الملثم (الأصمعي) قال: لقد ورثت عامود رخام عن أبي، نحت عليه القصيدة لا يستطيع حمله إلا ثمان رجال.
وبعدما وزنه وفرغت خزينة الدولة أشار الوزير على الخليفة أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون سوى الأصمعي، لأنه بارع جدًا.
فطلب الخليفة من الرجل الملثم أن يكشف عن وجهه، فاكتشف إنه حقًا الأصمعي، وطلب منه أن يرد الذهب، فرفض الأصمعي إلا أن يجزي الخليفة الشعراء علي ما نظموه ، فوافق الخليفة أبي جعفر المنصور، وكان الأصمعي هو السبب في إنصاف الشعراء.
****************************************************
صحة نسب قصيدة صوت صفير البلبل إلى الأصمعي.
بعد أن أوردنا شرح قصيدة صوت صفير البلبل، هناك جانب مهم جدًا يجب الإشارة إليه؛ وهو أن أساتذة الأدب والمؤرخين ينفون نسب هذه القصيدة إلى “عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي” المعروف بالأصمعي المولود في عام 121 هـجريًا – 740 ميلاديًا.
وذلك لعدة أسباب نذكر أهمها:
- أن الأصمعي لم يكن يكتب الشعر، وإنما كان راويا وعالم لغة، ولم يَرِد له أي قصائد شعرية.
- أن الأصمعي لم يتقابل مع الخليف أبي جعفر المنصور، فعندما نبغ الأصمعي كان الخليفة أبي جعفر المنصور قد مات.
- وأن الأصمعي لم يظهر على الساحة إلا عن طريق حاجب الخليفة “هارون الرشيد”، كان يسمى هذا الحاجب “الفضل بن ربيعة”.
- أن القافية مجرورة في تلك القصيدة المزعومة، فكيف لرجل بقامة الأصمعي العلمية والأدبية أن يجر كلمة مثل الثمل في قوله:
“هَيَّجَ قَلبِي الثَمل” وما الذي جرها؟!!
- الألفاظ الغريبة المنتشرة في القصيدة التي لا يوجد لها أصل في اللغة العربية وحاولنا بشتى الطرق أن ندخلها في اللغة كيف لرجل
بقامة الأصمعي أن يقول مثل هذه الأقوال؟ نحو: “وَشاهشُ” و”الأَدبُولِي”.
- من المفترض أن هذه القصيدة على بحر الرجز، لكنها مليئة بالكسور والأخطاء العروضية والبعد كل البعد عن الوزن.
- لا يمكن لخليفة عظيم مثل أبي جعفر المنصور أن يكون أفاقا هكذا، وإلا لكانت كل كتب الأدب والتصنيفات ذكرت ذلك، وكان الشعراء
توقفوا عن مدحه.
- كان مشهورا عن الأصمعي خوفه وحرصه على مال الدولة فكيف يساعد في تبديديها؟؟
- لماذا هذه المسرحية كلها والعبد والجارية..؟؟ كان من الممكن أن يقول الخليفة أني سمعت هذه القصيدة قبلًا ولن يكذبه أحد، أو حتى
يقول : أنها لم تعجبه ولا يعطيه شيء.
- بعض الناس -في زمننا هذا- قادرون على حفظ القصيدة بسهولة، فكان من الأولى أن يحفظها هؤلاء الثلاثة.
- أن الخليفة أبو جعفر المنصور كان يلقبه الشعراء بـ”بالدوانيقي” لشدة حرصه على أموال الدولة، فكيف يَعد الأدباء بمثل هذا السخاء ؟
***********************************************
الحكم على قصيدة صوت صفير البلبل.
مما سبق نستنتج أن هذه القصيدة ليست للأصمعي وردت في الكتب الأدبية المحدثة نسيبًا بغرض التسلية فقط، ولم ترد في أي مصدر موثوق، أول ظهور لها كان على لسان قصاص يدعى: “محمد دياب الإتليدي” وهو رجل مُنكر، لا نعرف عنه سوى اسمه وتاريخ وفاته، والمصدر الثاني لرجل مشهور عنه الكذب، وفاسد الرأي يسمى: “لويس شيخو” وكتابه اسمه: “مجاني من حقائق العرب”.
بذلك نكون قد قدمنا لكم شرح قصيدة صوت صفير البلبل ،،، ونرجو أن نكون قد أفدناكم.
ا / محمد فايز اللحامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق